الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وعنه أيضًا وأنزل مبنيًا للفاعل وجاء مصدره {تنزيلًا} وقياسه إنزالًا إلاّ أنه لما كان معنى أنزل ونزَّل واحدًا جاز مجيء مصدر أحدما للآخر كما قال الشاعر:
كأنه قال: حتى انطويت.وقرأ الأعمش وعبد الله في نقل ابن عطية وأنزل ماضيًا رباعيًا مبنيًا للمفعول مضارعه ينزل.وقرأ جناح بن حبيش والخفاف عن أبي عمرو {ونزل} ثلاثيًا مخففًا مبنيًا للفاعل، وهارون عن أبي عمرو وتنزل بالتاء من فوق مضارع نزل مشددًا مبنيًا للفاعل، وأبو معاذ وخارجة عن أبي عمرو {ونزل الملائكة} بضم النون وشد الزاي، أسقط النون من وننزل وفي بعض المصاحف وننزل بالنون مضارع نزل مشددًا مبنيًا للفاعل.ونسبها ابن عطية لابن كثير وحده قال: وهي قراءة أهل مكة ورويت عن أبي عمرو.وعن أبيّ أيضًا وتنزلت.وقرأ أُبيّ ونزلت ماضيًا مشددًا مبنيًا للمفعول بتاء التأنيث.وقال صاحب اللوامح عن الخفاف عن أبي عمرو: {ونُزَل} مخففًا مبنيًا للمفعول {الملائكة} رفعًا، فإن صحت القراءة فإنه حذف منها المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وتقديره: ونزل نزول الملائكة فحذف النزول ونقل إعرابه إلى {الملائكة} بمعنى نزول نازل الملائكة لأن المصدر يكون بمعنى الاسم، وهذا مما يجيء على مذهب سيبويه في ترتيب اللازم للمفعول به لأن الفعل يدل على مصدره انتهى.وقال أبو الفتح: وهذا غير معروف لأن {نزل} لا يتعدى إلى مفعول فيبني هنا للملائكة، ووجهه أن يكون مثل زكم الرجل وجن فإنه لا يقال إلاّ أزكمه الله وأجنه.وهذا باب سماع لا قياس انتهى.فهذه إحدى عشرة قراءة.والظاهر أن الغمام هو السحاب المعهود.وقيل هو الله في قوله: {في ظلل من الغمام} وقال ابن جريج: الغمام الذي يأتي الله فيه في الجنة زعموا.وقال الحسن: سترة بين السماء والأرض تعرج الملائكة فيه تنسخ أعمال بني آدم ليحاسبوا.وقيل: غمام أبيض رقيق مثل الضبابة ولم يكن لبني إسرائيل في تيههم، والظاهر أن {السماء} هي المظلة لنا.وقيل: تتشقق سماء سماء قاله مقاتل.والباء باء الحال أي متغيمة أو باء السبب أي بسبب طلوع الغمام منه كأنه الذي تتشقق به السماء كما تقول: شق السنام بالشفرة وانشق بها ونظيره قوله: {السماء منفطر به} أو بمعنى عن أقوال ثلاثة.والفرق بين الباء السببية وعن أن انشق عن كذا تفتح عنه وانشق بكذا أنه هو الشاق له.{ونزل الملائكة} أي إلى الأرض لوقوع الجزاء والحساب.و{الحق} صفة للملك أي الثابت لأن كل ملك يومئذ يبطل، ولا يبقى إلاّ ملكه تعالى وخبر {الملك} {يومئذ}.و{الرحمن} متعلق بالحق أو للبيان أعني {للرحمن}.وقيل: الخبر {للرحمن} و{يومئذ} معمول للملك.وقيل: الخبر {الحق} و{للرحمن} متعلق به أو للبيان، وعسر ذلك اليوم على الكافرين بدخولهم النار وما في خلال ذلك من المخاوف.ودل قوله: {على الكافرين} على تيسيره على المؤمنين ففي الحديث أنه يهون حتى يكون على المؤمن أخف عليه من صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا والظاهر عموم الظالم إذ اللام فيه للجنس قاله مجاهد وأبو رجاء، وقالا: فلان هو كناية عن الشيطان.وقال ابن عباس وجماعة: {الظالم} هنا عقبة بن أبي معيط إذ كان جنح إلى الإسلام وأُبيّ بن خلف هو المكني عنه بفلان، وكان بينهما مخالة فنهاه عن الإسلام فقبل منه.وعن ابن عباس أيضًا.عكس هذا القول.قيل وسبب نزولها هو عقبة وأُبي.وقيل: كان عقبة خليلًا لأمية فأسلم عقبة فقال أمية: وجهي من وجهك حرام إن بايعت محمدًا فكفر وارتد لرضا أمية فنزلت قاله الشعبي.وذكر من إساءة عقبة على الرسول ما كان سبب أن قال له الرسول عليه السلام: «لا ألقاك خارجًا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف» فقتل عقبة يوم بدر صبرًا أمر عليًا فضرب عنقه، وقتل أبيّ بن خلف يوم أحد في المبارزة.والمقصود ذكر هول يوم القيامة بتندم الظالم وتمنيه أنه لم يكن أطاع خليله الذي كان يأمره بالظلم وما من ظالم إلا وله في الغالب خليل خاص به يعبر عنه بفلان.والظاهر أن {الظالم} {يعض على يديه} فعل النادم المتفجع.وقال الضحاك: يأكل يديه إلى المرفق ثم تنبت، ولا يزال كذلك كلما أكلها نبتت.وقيل: هو مجاز عبر به عن التحير والغم والندم والتفجع ونقل أئمة اللغة أن المتأسف المتحزن المتندم يعض على إبهامه ندمًا وقال الشاعر: وفي المثل: يأكل يديه ندمًا ويسيل دمعه دمًا.وقال الزمخشري: عض الأنامل واليدين والسقوط في اليد وأكل البنان وحرق الأسنان والإرم وفروعها كنايات عن الغيظ والحسرة لأنها من روادفها فتذكر الرادفة.ويدل بها على المردوف فيرتفع الكلام به في طبقة الفصاحة، ويجد السامع عنده في نفسه من الروعة والاستحسان ما لا يجد عند لفظ المكنى عنه انتهى.وقال الشاعر في حرق الناب: {يقول} في موضع الحال أي قائلًا {يا ليتني} فان كانت اللام للعهد فالمعنى أنه تمنى عقبة أن لو صحب النبيّ صلى الله عليه وسلم وسلك طريق الحق، وإن كانت اللام للجنس فالمعنى أنه تمنى.سلوك طريق الرسول وهو الإيمان، ويكون الرسول للجنس لأن كل ظالم قد كلف اتّباع ما جاء به رسول من الله إلى أن جاءت الملة المحمدية فنسخت جميع الملل، فلا يقبل بعد مجيئه دين غير الذي جاء به.ثم ينادي بالويل والحسرة يقول: {يا ويلتي} أي يا هلكاه كقوله: {يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله} وقرأ الحسن وابن قطيب {يا ليتني} بكسر التاء والياء ياء الإضافة وهو الأصل لأن الرجل ينادي ويلته وهي هلكته يقول لها تعالي فهذا أوانك.وقرأت فرقة بالإمالة.قال أبو علي: وترك الإمالة أحسن لأن هذه اللفظة الياء فبدلت الكسرة فتحة والياء ألفًا فرارًا من الياء فمن أمال رجع إلى الذي عنه فر أولًا.وفلان كناية عن العلم وهو متصرف.وقل كناية عن نكرة الإنسان نحو: يا رجل وهو مختص بالنداء، وفلة بمعنى يا امرأة كذلك ولام فل ياء أو واو وليس مرخمًا من فلان خلافًا للفراء.ووهم ابن عصفور وابن مالك وصاحب البسيط في قولهم فل كناية عن العلم كفلان.وفي كتاب سيبويه ما قلناه بالنقل عن العرب.و{الذكر} ذكر الله أو القرآن أو الموعظة، والظاهر حمل الشيطان على ظاهره لأنه هو الذي وسوس إليه في مخالة من أضله سماه شيطانًا لأنه يضل كما يضل الشيطان ثم خذله ولم ينفعه في العاقبة.وتحتمل هذه الجملة أن تكون من تمام كلام الظالم، ويحتمل أن تكون إخبارًا من كلام الله على جهة الدلالة على وجه ضلالهم والتحذير من الشيطان الذي بلغهم ذلك المبلغ.وفي الحديث الصحيح تمثيل الجليس الصالح بالمسك والجليس السوء بنافخ الكير.والظاهر أن دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه وإخباره بهجر قومه قريش القرآن هو مما جرى له في الدنيا بدليل إقباله عليه مسليًا مؤانسًا بقوله: {وكذلك جعلنا لكل نبيّ عدوًا من المجرمين} وأنه هو الكافي في هدايته ونصره فهو وعد منه بالنصر وهذا القول من الرسول وشكايته فيه تخويف لقومه.وقالت فرقة منهم أبو مسلم إنه قوله عليه السلام في الآخرة كقوله: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا} والظاهر أن {مهجورًا} بمعنى متروكًا من الإيمان به مبعدًا مقصيًا من الهجر بفتح الهاء.وقاله مجاهد والنخعي وأتباعه.وقيل: من الهجر والتقدير {مهجورًا} فيه بمعنى أنه باطل.وأساطير الأولين أنهم إذا سمعوه هجروا فيه كقوله: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه} قال الزمخشري: ويجوز أن يكون المهجور بمعنى الهجر كالملحود والمعقول، والمعنى اتخذوه هجرًا والعدو يجوز أن يكون واحدًا وجمعًا انتهى.وانتصب {هاديًا} و{نصيرًا} على الحال أو على التمييز. اهـ. .قال أبو السعود: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السماء} أي تتفتحُ وأصلُه تتشقَّقُ فحُذفتْ إحدى التَّاءينِ كما في تلظَّى. وقرئ بإدغامِ التَّاءِ في الشِّينِ {بالغمام} بسببِ طلوعِ الغمامِ منها وهو الغَمامُ الذي ذُكر في قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مّنَ الغمام والملائكة} قيل هو غمامٌ أبيضُ رقيقٌ مثلُ الضَّبابةِ ولم يكُنْ إلاَّ لبني إسرائيلَ {وَنُزّلَ الملائكة تَنزِيلًا} أي تنزيلًا عجيبًا غيرَ معُهودٍ قيل تنشق سماءً سماءً وينزل الملائكةُ خلالَ ذلك الغمامِ بصحائفِ أعمالِ العبادِ وقرئ ونُزِّلتِ الملائكةُ ونُنْزل ونُنزّل على صيغة المتكلم من الإنزالِ والتَّنزيل ونزَّل الملائكةَ وأنزلَ الملائكةَ وتزِلُ الملائكةُ على حذف النُّون الذي هو فاءُ الفعلِ من تنزل.{الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن} أي السَّلطنةُ القاهرِةُ والاستيلاءُ الكليُّ العام الثَّابتُ صورةً ومعنى ظاهرًا وباطنًا بحيثُ لا زوالَ له أصلًا ثابتٌ الرَّحمِ يومئذٍ فالمُلكُ مبتدأٌ والحقُّ صفتُه وللرَّحمنِ خبرُه ويومنذٍ ظرفٌ لثبُوتِ الخبرِ للمبتدأِ، وفائدةُ التَّقييدِ أنَّ ثبوت المُلك المذكور له تعالى خاصَّةً يومئذٍ وأمَّا فيما عداهُ من أيَّامِ الدُّنيا فيكون لغيرهِ أيضًا تصرُّفٌ صوريُّ في الجُملةِ وقيل: المُلك مبتدأٌ والحقُّ خبرُه وللرَّحمنُ متعلَّق بالحقِّ أو بمحذوفٍ على التَّبيين أو بمحذوفٍ هو صفةٌ للحقِّ ويومئذٍ معمولٌ للملك وقيلَ الخبرُ يومئذٍ والحقُّ نعتٌ للملكِ وللرحمن على ما ذُكر، وأيًَّا ما كان فالجملُة بمعناها عاملةٌ في الظَّرفِ أي ينفردُ الله تعالَى بالملكِ يومَ تشقَّقُ وقيل: الظَّرفُ منصوبٌ بما ذُكر فالجملةُ حينئذٍ استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ أحوالِه وأهوالِه وإيرادُه تعالى بعُنوانِ الرَّحمانيةِ للإيذانِ بأنَّ اتصِّافَه تعالى بغايةِ الرَّحمةِ لا يهُوِّنُ الخَطْبَ على الكَفَرةِ لعدمِ استحقاقِهم للرَّحمةِ كما في قولِه تعالى: {يا أيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم} والمعنى أنَّ الملكَ الحقيقيَّ يومئذٍ للرَّحمنِ {وَكَانَ} ذلكَ اليوم مع كونِ المُلكِ فيه لله تعالى المبالغ في الرَّحمةِ لعبادِه {يَوْمًا عَلَى الكافرين عَسِيرًا} شَديدًا لهُم. وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ لمُراعاةِ الفواصلِ وأمَّا للمُؤمنين فيكون يَسيرًا بفضلِ الله تعالى، وقد جاءَ في الحديثِ أنَّه يُهوَّن يومُ القيامةِ على المؤمنِ حتَّى يكونَ أخفَّ عليه من صلاةٍ مكتوبةٍ صلاَّها في الدّنيا، والجملةُ اعتراضٌ تذييلىٌّ مقرِّرٌ لما قبله.{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ} عضُّ اليدينِ والأناملِ وأكلُ البنانِ وحرقُ الأسنانِ ونحوها كناياتٌ عن الغيظِ والحسرةِ لأنَّها من روادِفهما. والمرادُ بالظَّالمِ إمَّا عقبةُ بنُ أبي مُعيطٍ على ما قيل: من أنَّه كان يُكثر مجالسةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فدعاهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يومًا إلى ضيافتِه فأبى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنْ يأكلَ من طعامِه حتَّى ينطِقَ بالشَّهادتينِ ففعلَ وكان أُبيُّ بنُ خَلَفٍ صديقَه فعاتبَه فقال: صَبأتَ فقال: لا ولكنْ أَبَى أنْ يأكلَ منْ طَعَامي وهو في بيتي فاستحييتُ منه فشهدتُ له فقال: إنيِّ لا أرضى منكَ إلا أنْ تأتيَه فتطأَ قفاهُ وتبزقَ في وجههِ فأتاهُ فوجدَه ساجدًا في دارِ النَّدوةِ ففعل ذلك فقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، لا ألقاكَ خارجًا من مكَّةَ إلاَّ علوتُ رأسَك بالسَّيفِ فأُسرَ يوم بدرٍ فأمرَ عليًَّا رضي الله عنه فقتَلَه وقيل: قَتَله عاصمُ بنُ ثابثٍ الأنصاريُّ وطعنَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أُبيًَّا يومَ أُحدٍ في المُبارزة فرجعَ إلى مكَّةَ وماتَ.
|